ليلة القدر
للشيخ / أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري
"اعلموا أن ليلة القدر في
رمضان خاصة دون سائر العام ، والبرهان على ذلك برهان مركب من نصين كريمين .
قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ } البقرة185 ، فنزول القرآن في شهر رمضان مقدمة أولى
وقال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
}القدر1 ، فهذه مقدمة ثانية : أعني نزول القرآن في ليلة القدر .
النتيجة: أن ليلة القدر في رمضان ، لأن
القرآن نزل في رمضان ، ورمضان عدة ليال ، وقد نزل في ليلة القدر .
فصح أن ليلة القدر من ليالي رمضان ، وليلة القدر ثابتة إلى
يوم القيامة
، لا يخلو رمضان ما من ليلة القدر .
والبرهان على ذلك عدة أمور :
أولها : أن الله قال عنها {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا } القدر4 ولم يقل تنزّلت .
فصيغة المستقبل ( تنزّل ) دالة على الديمومة .
وثانيها : إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك ، ولا
معنى لأي خلاف بعدهم ، بل أجمع على ذلك المحدثون وجمهور الفقهاء .
وثالثها : قال صلى الله عليه وسلم : " ومن قام ليلة
القدر إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه " . رواه البخاري وغيره .
فهذا خطاب عام للأمة المحمدية إلى أن تقوم الساعة وينقطع
التكليف
.
وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بقيام ليلة
القدر ولا يكون في رمضان ليلة قدر كما زعمت الرافضة وقلة
تابعتهم من أهل الرأي .
ورابعها : أن
النصوص تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتحراها في العشر الأواخر من رمضان .
وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بتحري معدوم .
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر من مواسم العمر
التي لا تعوض لما فيها من فيوض رحمة الله وعفوه وعونه على
الاستقامة والثبات .
وإنني لأبكي عمري في سنوات كنت فيها من الغافلين .
والقاعدة للعبد المسلم أن أجره على قدر نصبه .
ولهذا لم يعين الله ليلتها ليحصل الجد في تحريها ، وليظهر
صدق عبودية
من يلتمسها .
ولم يغيب الله علمها بإطلاق رفقاً بعباده ورحمة . وإنما حددها
في ليلة مبهمة من عشر ليال آخر الشهر ، فليس من الشاق على العبد أن يجتهد في العبادة
عشر ليال ، ومضمون له أن يوافق ليلة القدر في إحداهن .
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن المواسم الخيرة تبهم في
زمان معين كساعة الإجابة في يوم الجمعة للملمح الذي ذكرته لكم .
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن الخلاف في تعيين ليلة القدر
بلغ أربعين قولا .
وهكذا يكون التشتت في ابتغاء تعيين ما لم يقض الله بتعيينه
لخلقه
.
والذي أوصي به كل مسلم أن يعتقد جازماً بلا تردد أن لا سبيل إلى
احتمال أن ليلة القدر في ليلة معينة بأي دلالة شرعية . وأنه لا مطمح للعبد في موافقة
ليلة القدر بيقين لا شك فيه إلا إذا اجتهد في العبادة واعتبر كل ليلة من العشر
الأواخر ليلة قدر ، فها هنا لن يخيب ، وسيكون وافق ليلة القدر حتما .
وإنما قلت لا دلالة في نصوص الشرع البتة على أن ليلة القدر
في ليلة معينة ـ وإن ورد النص بأنها في الوتر من العشر
الأواخر ـ لعدة براهين ضرورية لا محيد عنها :
أولها : أن المسلم لا يعلم بداية العشر الأواخر من رمضان
حتى يطلع هلال شوال .
فيحتمل أن يكون الشهر ثلاثين يوما فتكون ليلة واحد وعشرين
أولى ليالي العشر الأواخر ، وتكون ليالي الوتر ليالي
21 ، و 23 ، و25، و27 ، و 29 .
ويحتمل أن يكون الشهر تسعة وعشرين يوما فتكون ليلة عشرين
أولى ليالي العشر الأواخر ، وتكون ليالي الوتر من ليالي
العشر الأواخر ليلة 20 ، و 22 ، و 24 ، و 26 ،
و 28 ، و30 .
وكل هذا لا سبيل إلى العلم به إلّا بعد هلال شوال ، والعلم بليالي
الوتر بعد ذلك لا ينفع من أضاع ليالي من العشر يحسبها غير وتر فكشف طلوع هلال
شوال عن كونها وترا .
فهذا يعني أن تحري ليلة القدر يبدأ من ليلة عشرين إلى
طلوع هلال شوال ، وهذا أمر غفل عنه علماء العصر ، ولم يتعلمه عوام المسلمين الحريصون
على تحري ليلة القدر .
وثاني البراهين : أنه لم يرد في الشرع نصب علامة
على ليلة القدر تكون في بدايتها ، وإنما ورد علامتان في صبيحتها :
إحداهما : خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو رؤياه
الكريمة أن يسجد في صبيحتها على ماء وطين .
وقد صح أن المسجد وكف بالمطر في صبيحة ليلة إحدى
وعشرين ، وفي ليلة ثلاث وعشرين . ولم يثبت أن المسجد لم يكف بقية العشر .
قال أبو عبدالرحمن : ولا نستبعد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم علم ليلة القدر بتحقق رؤياه بعد ما أنسيها ، ولكنه
لم يعينها لأمته فأمر بتحريها في الوتر من العشر ، وقد قلن لكم إن كل ليلة منذ ليلة
العشرين يحتمل أن تكون وترا إلى أن يطلع هلال شوال .
وأخراهما : أن شمس صبيحتها تطلع بلا شعاع .
وما ضمن الله لنا علم ذلك ، فقد يكون ذلك أول طلوعها
قبل أن تشرق علينا فنراها .
وثالث البراهين : لو كانت ليلة القدر ليلة إحدى
وعشرين أو ثلاث وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التمسوها في التاسعة
والسابعة والخامسة .
ولو كانت ليلة سبع وعشرين ما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها .
قال ذلك بمقابل أن رجالاً رأوا أنها ليلة سبع
وعشرين
.
وإذن فكل ليلة من ليالي الوتر ذكرها رسول الله صلى الله
عليه وسلم
فهي تفسير للوتر وليست تعييناً لليلة .
ألا فليعلم جميع المسلمين أن المسلم لن يضمن موافقة اجتهاده في العبادة
والدعاء لليلة القدر حتى يجتهد العشر الأواخر كلها ابتداء من ليلة عشرين .
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر غير متنقلة بمعنى أن تكون في عام
مثلاً ليلة ثلاث وعشرين ، وفي عام ليلة سبع وعشرين . بل هي ليلة واحدة ثابتة معينة
فعلم الله مبهمة في علم الخلق .
والبرهان على ذلك أن الله سبحانه قال : {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }القدر1
ولم يقل في ليلة قدر .
وبرهان آخر وهو أنها لو كانت متنقلة لكانت رؤيا
رسول الله صلى الله عليه وسلم للدلالة على عام واحد ، وليس كذلك سياق الحديث ، فسياقه
يدل على أنها ليلة ثابتة .
وبرهان ثالث وهو قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم : (هي في العشر الآواخر في تسع يمضين أو في سبع يبقين)
ولو كانت متنقلة لقال : تارة في تسع ، وتارة في سبع .
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي غير متلو ، وما كان ربك نسيا .
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر عظيمة القدر لقوله تعالى:
{خَيْرٌ
مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} القدر3 فهذا أحد معاني تسميتها .
وهي أيضاً ليلة تقدير لقوله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ }الدخان4
وقوله تعالى
: { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ
أَمْر}القدر4
وهذا شامل لتقدير الأقدار والأرزاق والآجال في تلك
السنة.
وتعليل التسمية بأكثر من معنى وارد ، فإننا نجد في الصلاة الشرعية
جميع المعاني اللغوية لمادة الصاد واللام والحرف المعتل .
وحري بمن تحرى ليلة القدر أن يحسن الله خاتمته وأن يحييه حياة
طيبة ، لأن الله يمحو ويثبت ، وتحري ليلة القدر التجاء إلى الله واستعاذة بقدرته
في وقت إجابة وتقدير وسلام إلى مطلع الفجر .
وما أفتيتكم ـ أيها الأحباب ـ إلّا بمقتضى أصول الأخذ بالظاهر
التي أرجو أن ألقى الله عليها متمثلاً لمقتضاها غير مغير ولا مبدل ولا صارف بلا
برهان
.
ولقد بكرت لكم بالحديث عن ليلة القدر قبل أوقات تحريها لتعقدوا
العزم في وقت مبكر ، ولتوطنوا النفس ، وليكون عندكم مهلة للمراجعة إن لم تثقوا بفتواي ،
والله المستعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق